
جاء في تاج العروس في مادة سوس: "سست الرعية"أمرتها ونهيتها، والسياسة القيام على الشيء بما يصلحه".
والإصلاح في "السياسة" ليس مجرد هدف أو غاية تسعى السياسة في حركتها لتحقيقه، بل هو السياسة نفسها وحقيقتها، إذا فقدته فقد فقدت نفسها.
تنقسم السياسة إلى نوعين: سياسة ظالمة والشرع يحرمها، وسياسة عادلة تخرج الحق من الظالم وتدفع كثيرا من المظالم وتردع أهل الفساد ويتوصل بها إلى المقاصد الشرعية.
والسياسة الشرعية هي السياسة التي عن طريقها تحد الجرائم وتدفع المظالم وتردع المجرمين، وتشبه إلى حد ما السياسة الجنائية الحالية لان هدفها إصلاحي محض يتجلى في ردع المجرمين عموما وإصلاحهم.
وهناك نصوص قرآنية وأحاديث نبوية تدل على مشروعية السياسة والزجر من بينها قوله تعالى "ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون " ومعنى ذلك أن القصاص الذي كتبه الله تعالى، إذا أقيم ازدجر الناس عن القتل، قال قتادة في ذلك: "جعل الله تعالى هذا القصاص حياة ونكالا وعظة لأهل الجهل فكم رجل هم بداهية لولا مخافة القصاص لوقع بها..."
فإذا تبث قيام الدليل على أن السياسة في الأحكام من الطرق الشرعية، فان الإشكال يطرح حول سلطة القضاة في تعاطي الحكم بها فيما يرفع إليهم من القضايا الجنائية ؟
تتعدد الرؤى حول حكم سلطة القضاة في تعاطي الحكم بالسياسة الشرعية في المجال الجنائي، فمن الفقهاء من يقول بأن لهم تعاطي ذلك، ومنهم من يقول بأن القاضي ليس له أن تتكلم في السياسة ولا مدخل له فيها.
من بين ما ذكره ابن القيم الجوزية أن "عموم الولايات وخصوصها، وما يستفيده المتولى بالولاية يتلقى من الألفاظ والأموال والعرف وليس ذلك حد في الشرع، فقد يدخل في ولاية القضاء في بعض الأزمنة والأمكنة ما يدخل في ولاية الحرب في زمان ومكان آخر" أي أن القضاة لهم تعاطي الحكم بالسياسة الشرعية، وكذلك ما ذكره أهل المذهب الأندلسيين بأن للقضاة تعاطي ذلك.
وعلى العكس من ذلك ينقل القرافي في كتابه "الذخيرة" بأن القضاة ليس لهم التكلم في السياسة ولا مدخل لهم فيها.
ومن بين ما ذكره الماوردي في كتابه "الأحكام السلطانية" حول الفرق بين والي المظالم وبين القضاة .
انه يستعمل من الإرهاب، وكشف الأشياء بالإمارات الدالة، وشواهد الأحوال اللائحة، مما يؤدي إلى ظهور الحق، بخلافهم .
و أنه يقابل من ظهر ظلمه بالتأديب بخلافهم.
ثم أنه يتأنى في ترداد الخصوم عند اللبس، ليمعن في الكشف بخلافهم، إذا سأله احد الخصمين فصل الحكومة، لا يؤخروه لكي يتبين الحق
وبخلاف ما ذكره عن الماوردي بأن نصوص المذهب تقتضي أن للقاضي تعاطي هذه الأمور، بحيث انه يؤخذ بالامارات و الحجج لكشف حقيقة الجرائم.
وأما سلطة تأديب الذين يظهر ظلمهم، فإن للقاضي ذلك، وقد قال ابن سهل أن "المدعي إذا انكشف للحاكم انه مبطل في دعواه فانه يؤديه، وأقل ذلك الحبس"
وهناك عدة جرائم يحق للقاضي تأديب مرتكبيها، فمن باع زوجته ينكل تنكيلا شديدا وتطلق عليه بواحدة بائنة، وإذا أذى أحد الخصمين صاحبه نكل وأدب.
كذلك جاء في " مفيد الحكام" من تكلم في احد بما لم يكن فيه ولم يأت بينة أدب، ومن تكلم في عالم بما لا يجب ضرب أربعين، فبالرغم من شدة العقاب إلا أن الغرض منها هو الإصلاح وردع المجرمين على عدم العودة إلى ارتكابها.
ويتبن مما سبق بأن ما نقله القرافي في "الذخيرة" ليس هو أهل المذهب الاندلسيين
ومما قاله القرافي أيضا في تمييزه بين نظر والى الجرائم ونظر القضاة أن :
أنه يراعي شواهد الحال وأوصاف المتهوم في قوة التهمة وضعفها، بأن يكون المتهم بالزنا متصنعا للنساء، فتقوى التهمة، أو متهما بالسرقة وفيه آثار ضرب مع قوة بدن، وهو من أهل الزعارة فتقوى , أو لا يكون شيئا من ذلك فيخفف, و ليس ذلك للقضاة.
و له تعجيل حبس المتهوم للاستبراء والكشف، ومدته شهر أو بحسن ما يراه، بخلاف القضاة.
و يجوز له مع قوة التهمة ضرب المتهوم ضرب تعزيز لا ضرب حد ليصدق، فإن أقر وهو مضروب اعتبرت حاله، فإن ضرب ليقر لم يعتبر إقراره تحت الضرب، أو ليصدق عن حاله قطع ضربه، واستعاد إقراره. فإن أقر بخلاف الإقرار الأول أخذه بالثاني، ويجوز العمل بالإقرار الأول مع كراهة، وليس ذلك للقضاة.
و أن له فيمن تكررت منه الجرائم ولم ينزجر بالحدود استدامة حبسه إذا أضر الناس بجرائمه، حتى يموت. وبقوته ويكسوه من بيت المال بخلاف القضاة.
و أن له اخذ المجرم بالتوبة قهرا، ويظهر له من الوعيد ما يقوده إليها طوعا، وبتوعده بالقتل فيما لا يجب فيه القتل، لأنه إرهاب لا تحقيق، ويجوز أن يتوعده بالأدب دون القتل، بخلاف القضاة.
أما أهل المذهب فينظرون إلى أن للقاضي تعاطى الكثير من هذه الأمور، فانه ينظر الى أوصاف شخص المتهم لتغليظ العقوبة أو تخفيفها, و بالنسبة لتعجيل حبس المتهوم للاستبراء والكشف ومدته شهر فذلك أيضا للقاضي حيث جاء في أحكام ابن سهل " من أتى القاضي متعلقا برجل يرميه بدم وليه، فان القاضي إذا جاء مثل هذا فإن المدعى يحتاج إلى أن يثبت أنه ولي الدم، فإذا أثبت له قعدده من المدعي دمه، كشف هل له بينة على دعواه؟ فإن ادعى ثبوت ذلك من يومه، أو من الغد، أمر القاضي بحبس المدعي، وإن أثبت القعدد ولم تحضره بينة على الدم، فهو على ضربين: إن كان المدعي عليه متهما أطلت في حبسه خمسة عشر يوما إلى الثلاثين، وإن كان غير متهم فاليومين أو نحوهما، فإن أتى طالب الدم في داخل المدة بسبب قوي، سقط هذا الحكم ووجبت الزيادة في حبسه على ما يراه"، وهذا بيان على أن للقاضي سلطة تعجيل حبس المتهوم للاستبراء والكشف. ونفس الأمر بالنسبة لضرب المتهوم لقوة التهمة ضرب تعزير بحيث أنه لا يخرج عن صفة ضرب الحدود ولا يعاقبه بغير العقوبات الشرعية.
وأما ما قاله فيمن تكررت منه الجرائم ولا ينزجر بالحدود استدامة حبسه، فذلك من أعمال القاضي، قال ابن سهل في ذلك " شهد عند القاضي أحمد بن محمد قاضي الجماعة بقرطبة، فلان وفلان أنهم يعرفون فلانا ممن يعصر الخمر، ويبيعها، ويشربها، أو يدخرها، ويجتمع إليه أهل الشر والفساد، وسئل القاضي عن ذلك أهل الشورى فأجابوا: "أما شرب الخمر ففيه الحد ثمانون سوطا، وأما بيعها فإن الأدب على قدر ما يردعه ذلك وينهاه، وأما جمع أهل الشر والفساد فأكثر من ذلك والحبس، حتى تظهر منه توبة فتفرق بعد الاعذار إليه فيما شهد به عليه". وما يستفاد من ذلك أنه في حالة تعدد الجرائم وتكرارها يحكم عليه باستدامة حبسه حتى تظهر توبته.
وعموما قال ابن سهل في كتابه "الاحكام" على القاضي مدار الأحكام واليه النظر في جميع وجوه القضاء من القليل والكثير بلا تحديد.
وقد توسع القرافي في فصل حول التوسعة على الحكام في الأحكام السياسية بأنها ليست مخالفة للشرع، وذلك من عدة وجوه من بينها انتشار الجرائم وكثرة الفساد، وما دام ذلك في مصلحة الأمة استنادا إلى المصلحة المرسلة التي قال بها الإمام مالك رضي الله عنه، وهي المصلحة التي لا يشهد الشرع باعتبارها ولا بإلغائها، إضافة إلى ذلك أن الشرع شدد في مسألة الشهادة، بحيث أنه ضيق في الشهادة في جريمة الزنا، فلم يقبل فيها إلا أربعة وفي جريمة القتل شاهدين، وذلك لعظمة الدماء .
ونختم بما قاله القرافي "ولا نشك أن قضاة زماننا، وشهودهم، وولاتهم، وأمناءهم، لو كانوا في العصر الأول ما ولّوا ولا عرج عليهم، وولاية هؤلاء في مثل ذلك العصر فسوق، فإن خيار زماننا هم أراذل ذلك الزمان، وولاية الأراذل فسوف، فقه حسن ما كان قبيحا، أو اتسع ما كان ضيقا، واختلفت الأحكام باختلاف الأزمان".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق